الرئيسية / فواصل / بَنو الأحد والخميس

بَنو الأحد والخميس

إبراهيم محمد نصير/

في يوم الأحد نَفَرٌ من بني البشر ، وجوههم تراها مكفهرّة ، واجمة ، طلعتهم عابسة ، غير راضية ، تشعر بها من السّعادة خالية ، و من الحياة بالية . عيونهم متوجّسة ، تلحظك بريبة و كسل ، في جفونها نعسة و ثقل . تزمّ شفاهها ، تكاد تطبق عليها حتّى لا تنبس ببنت شفة . ومع ذلك تثرثر بكثير من الشّكوى و الألم . لا تدري كيف ينتهي بها اليوم ، ولا كيف هي تنتهي به !

في هذا اليوم لا تود أن تلقى فيه تلك الوجوه ، فهي كئيبة ، و ستظل كذلك ؛ لأنه أوّل يوم عمل لها . و ليس يصعب عليك أن ترى واحداً منهم رابضاً في مكانه ، مقيداً بمقعده ، لا يحرّك ساكناً . و إنْ تحرّك فخطواته ثقيلة بطيئة كدورة حجر الرّحى العتيقة ، تسمع لها حسيساً و حفيفاً ، تطحن مزاجه إلى قطع متناثرة يصعب جمعها مرّة أخرى .

الأحد يومٌ يحتال فيه ( الهَؤلاءِ ) بحيلٍ و مكرٍ ، يعجز عن مثلها المارد و العفريت . فتراهم مرضى دون سقم ، واهنين دون عمل ، متعبين دون علل . يلوح لهم أنّهم – بتهاونهم وإحجامهم – يحسنون إلينا صنيعا جميلا ومعروفا كريما . يتذمّرون من كلّ أمر ، و يتنمّرون على كلّ حيّ . يمنّون عليك بواجب عملهم ، ويحسبونه فضلا منهم عليك .

تتمنّى لو أنّهم ، بل لو أنّك لم تكن معهم ، أو لم يكونوا معك . فكم من قبيح منهم تحمّلتَه ، وكم من وَخْم صنائعهم تجاهلتَه . يرهفون سمعهم لأيّ خبر ، يحسبون كلّ صيحة عليهم . يقيمون عليك حفل زار إن بدر منك نقدٌ ، و تولول عليك ألسنتُهم إن ذكرتَ فيهم عيبا ، أو نكأتَ زلّةً، أو كشفتَ خطأً .

إنْ تسألهم حاجة حاجّوك بحاجاتهم . وإن تحدّثتَ إليهم عن بعض شؤون العمل كنت أنت المصلح في غير زمانه ، وأنت كذلك فعلا . ومن غرائب طباعهم أنهم يطلبون إجازة للرّاحة بعد عودتهم من راحة إجازتهم . يَحارُ عقلك أمام

عقلهم ، أَهُمْ من بني جنسنا .. أم تٌرى أنّ إبليس قد تركهم عندنا ! هم في هذا اليوم – وباختصار شديد – لا يفضّلون أن يكون فيه أحد ؛ لأنّه يوم أحد .

أمّا الخميس فهو يوم من حروف أربعة ، يأتي بعد أيّام عمل أربعة . فيه تدبّ الحياة في أوردة فئات أربعة : الخاملون الّذين لا يرغبون في العمل ؛ والمتذمّرون الّذين لا يعجبهم شيءٌ ؛ و التّماثيل البشريّة الّذين تراهم كأنّهم نصبٌ مسنّدة إلى مكاتبهم ؛ وأخيرا فئة الدّهاة الّذين يعملون وَفْقَ منافعهم ليس غير . فترى – في يوم الخميس – جموع البشر تلك فرحين ودودين ، على محيّاهم بشرى سعيدة ، و كأنّهم موعودون بمفاجأة سعيدة أو بمأدبة غداء . شفاههم متبسّمة ، و قلوبهم هانئة في راحة . لو كنتُ أنا ذا سلطة لأسميتُ كلّ الأيّام بيوم الخميس ؛ لأنّ فيه سحراً عجيباً يتهادى في نفوس هؤلاء النّفر . غير أنّ بعضهم ، ومن شدّة سرورهم بقدوم يوم الخميس تراهم لا يكملون يوم عملهم ، أو تراهم يلجؤون دونما خجل إلى حيلة الاستمتاع بالتّمارض في نهاية كلّ أسبوع وفي بدايته في أحايين كثيرة .

الخميس يوم فيه النّفرُ متّفقون ، لا يجادلون ، و لا يتجادلون . من يسألهم حاجة قالوا له : اليوم الخميس . و كأنّهم قد صيّروا الخميس حقّاً لهم يكتسبونه كلّ أسبوع ؛ فلهم أن يعتذروا عن العمل ولا حرج عليهم . بل ليس غريباً أن تسمع منهم جوابهم الأبديّ نفسه ( تعال في يوم آخر !) ، حتى غدت عبارة المسلمين ( إن شاء الله ) يتحرّج منها البعض ؛ لأنّها تعني الاعتذار اللبق ولا حياء في ذلك . فصار الخميس توأماً شبيهاً بالأحد من حيث خواؤه من نبض الحياة . ولا عجب في ذلك ؛ لأنّهم هم النّفر أنفسهم في يومي الأحد و الخميس ، وجوههم في الأول حزينة واجمة ، و في الثاني فرحة متبسّمة ؛ غير أنهم فيهما كليهما ساكنون لا يحرّكهم أمر ، ولا يزجرهم نهي !

أمّا عن يوم تقييمهم عن أداء واجبهم وأمانة عملهم طَوال السنة فالحديث عنه ليس بمستطاع هنا إلا أمام قاضٍ من محكمة السّماء ؛ فحجّتهم المزعومة تتردّد دوما : أفلا يكفيكم أنّنا نأتي إلى عملنا كلّ يوم ؟ . وهم يعلمون أّنّ حضورهم كعدمه لا ضرع فيُحلب ، ولا ظهر فيُركب . ليس يدرون من عملهم سوى لازمتهم ( نأتي كلّ يوم ..! ) يتعبّد بها بعضُهم حين تُقام صلاتُهم ؛ إيماناً بأن العمل يُشغل العبد عن عبادته . فلله درّهم ، وما أكرمها من نعمة ! نسأل الله العافية .

فمتى – بحقّ السّماء والكون – يكون هؤلاء في مزاج العمل ونشاط العطاء وأمانة الأداء حقّاً وصدقاً وعدلا ؛ فهم في يوم سرورهم كيوم عبوسهم !!

تُرى هل يتكرّر بَنو اليومين مرّة أخرى بعد الّذي دهانا ؟!

عن Saadiah

شاهد أيضاً

د. إيمان الشمري تصدر “الموسوعة الكويتية الشعرية في مدح خير البرية”

صدر حديثًا كتاب “الموسوعة الكويتية الشعرية في مدح خير البرية” للدكتورة إيمان طعمة صفعق الشمري …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *